التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
التمهيد لدولة المماليك-(1)
لكن -سبحان الله!- بوفاة صلاح الدين الأيوبي تقلص دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتن المسلمون بالدولة الكبيرة، وكثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتفككت الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي.
ولسنا بصدد التفصيل في هذه الخلافات والصراعات والاستقلالات، ولكن نذكر هنا أن الصراع بين أمراء الأيوبيين استمر نحو ستين سنة متصلة منذ موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589 هجرية، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في سنة 648 هجرية، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلام وسباب وشقاق فقط.. بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأدى ذلك بالطبع إلى الفُرقة الشديدة، والتشرذم المقيت.. بل كان يصل أحيانًا الخلاف وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين! أو التعاون مع التتار ضد المسلمين! وكل هذا من جراء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة التي طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن ماجه والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» [2]
لقد جعل صلاح الدين الأيوبي الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفًا واحدًا هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا - فعلاً - وهي راغمة.
أما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر تمامًا، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله عز وجل فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلًا، ومنهم من مات فقيرًا، ومنهم من مات طريدًا، ومنهم من مات حبيسًا.
كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي.
الملك الصالح وفكرة المماليك:
سأقفز بكم خمسين سنة من الصراع، وأصل بكم إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى سنة 637 هجرية، وذلك حين تولى عرش مصر السلطان الأيوبي «الصالح نجم الدين أيوب»[3] أو «الملك الصالح»، والذي يعد من أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين، وللأسف فإن كثيرًا من المسلمين لا يعرفون شيئًا عن هذا السلطان العظيم حتى في مصر، والتي كانت مقر حكمه الرئيسي.تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة 637 هجرية، وكالعادة الجارية في تلك الأيام استعدّ الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل معه على خلافة مصر[4].. وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة 641 هجرية عندما توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام[5]، وتحالفت مع الصليبيين لحرب الملك الصالح أيوب! وذلك في مقابل أن يتنازل أمراء الشام الأيوبيون عن بيت المقدس للصليبيين!
والحق أن المرء لا يستطيع أن يتخيل كيف قبل أولئك الأمراء أن يتنازلوا عن بيت المقدس للنصارى، والمسلم الصادق لا يتخيل التفريط في أي بقعة إسلامية مهما صغرت، فكيف ببيت المقدس خاصة، والذي به -كما يعرف الجميع- المسجد الأقصى، والذي حرَّرَهُ جدهم البطل صلاح الدين من أيدي الصليبيين، وأريقت في سبيل تحريره دماء كثيرة، ومرت على المسلمين فترات عصيبة، وحروب مريرة.. لكن -سبحان الله!- هذا ما حدث بالفعل!
وتوحدت قوى أمراء الشام الأيوبيين مع الصليبيين في جيش كبير، وبدأ الزحف في اتجاه مصر.. وهنا أعد الملك الصالح جيشه، ووضع على قيادته أكفأ قادته وهو ركن الدين بيبرس، واستعد للمواجهة.. وكان الجيش المصري قليلًا وضعيفًا إذا قورن بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين، ولذلك استعان الملك الصالح بالجنود الخُوارِزمية الذين كانوا قد فروا من قبل من منطقة خُوارِزم بعد الاجتياح التتري لها.
وكان هؤلاء الجنود الخُوارِزمية جنودًا مرتزقة بمعنى الكلمة.. بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعرفت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة 642 هجرية، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية -نسأل الله عز وجل أن يحررها، وأن يحرر كامل فلسطين إن شاء الله- وانتصر فيها الملك الصالح انتصارًا باهرًا، وقُتل من الصليبيين أعداد كبيرة وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسرت مجموعة كبيرة من أمرائهم وملوكهم، وكذلك أسرت مجموعة من أمراء الأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس الذي كان الأيوبيون في الشام قد تنازلوا عنه للصليبيين، فاقتحم حصون الصليبيين، وحرّر المدينة المباركة بجيشه المدعم بالخُوارِزمية في سنة 643 هجرية، وبذلك حُرّر بيت المقدس نهائيًا[6]، ولم يستطع جيش نصراني أن يدخله أبدًا لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم 16 من نوفمبر سنة 1917 ميلادية، وذلك بالخيانة المعروفة لمصطفي كمال أتاتورك.. نسأل الله أن يعيده من جديد إلى الإسلام والمسلمين.
ثم إن الملك الصالح أيوب أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما.
غير أنه حدث تطور خطِر جدًّا في جيش الصالح أيوب، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخُوارِزمية المأجورة! وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتف هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنك ركن الدين بيبرس[7].
وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بُدَّ أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله.. فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلًا من الخُوارِزمية........ وكانت هذه الطائفة هي: «المماليك».
والتي سنتابع الحديث عنها في بقية المقالات القادم إن شاء الله.
[1] الملك العادل (ت615هـ):هو السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب وكان العادل حليمًا صفوحًا صبورًا على الأذى، كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه، حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج، وكانت له في ذلك اليد البيضاء، وكان ماسك اليد، وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالاً كثيرة على الفقراء، وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئًا كثيرًا جدًّا.
[2] ابن ماجه: كتاب الزهد بالدنيا، باب الهم بالدنيا (4105)، وقال الشيخ الألباني صحيح.
[3] نجم الدين أيوب (603-647هـ): هو السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، مولده بالقاهرة في سنة ثلاث وستمائة، وبها نشأ، وكان مكثرًا من المماليك، وبنى لهم قلعة الروضة التي بين الجيزة والقاهرة وأسكنهم بها، مرض ثم توفي أثناء محاصر الفرنسيين لدمياط، وأخفت زوجته شجرة الدر ذلك حتى تم النصر.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 13/180.
[5] انظر الأحداث عند ابن كثير: البداية والنهاية 13/189.
[6] ابن كثير: البداية والنهاية 13/192.
[7] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/322.
تعتبر فترة حكم المماليك من الفترات التاريخية المجهولة عند كثير من المسلمين، بل عند كثير من مثقفي المسلمين، وذلك قد يكون راجعًا لعدة عوامل.. ولعل من أهم هذه العوامل أن الأُمَّة الإسلامية في ذلك الوقت كانت قد تفرقت تفرقًا كبيرًا، حتى كثرت جدًّا الإمارات والدويلات، وصغر حجمها إلى الدرجة التي كانت فيها بعض الإمارات لا تتعدى مدينة واحدة فقط! وبالتالي فدراسة هذه الفترة تحتاج إلى مجهود ضخم لمتابعة الأحوال في العديد من الأقطار الإسلامية.
ومن العوامل التي أدت إلى جهل المسلمين بهذه الفترة أيضًا: كثرة الولاة والسلاطين في دولة المماليك ذاتها، ويكفي أن نشير إلى أن دولة المماليك الأولى - والمعروفة باسم دولة المماليك البحرية (وسنأتي إلى تعريف ذلك الاسم لاحقًا إن شاء الله) - حكمت حوالي 144 سنة، وفي خلال هذه الفترة حكم 29 سلطانًا! وذلك يعني أن متوسط حكم السلطان لم يكن يتعدى خمس سنوات.. وإن كان بعضهم قد حكم فترات طويلة، فإن الكثير منهم قد حكم عامًا أو عامين فقط! أضف إلى ذلك كثرة الانقلابات والاضطرابات العسكرية في فترة حكم المماليك، فقد قتل من السلاطين التسعة والعشرون عشرة، وخُلع اثنا عشر! وهكذا كانت القوَّة والسلاح هي وسيلة التغيير الرئيسية للسلاطين، وسارت البلاد على القاعدة التي وضعها أحد سلاطين الدولة الأيوبية (قبل المماليك) وهو السلطان «العادل الأيوبي[1]»، والتي تقول: «الحكم لمن غلب»!
ولعل من أهم أسباب عدم معرفة كثيرين بدولة المماليك هو تزوير التاريخ الإسلامي، والذي تولى كبره المستشرقون وأتباعهم من المسلمين المفتونين بهم، والذين شوهوا تاريخ المماليك لإنجازاتهم المشرقة والمهمَّة؛ والتي كان منها: وقوفهم سدًا منيعًا لصد قوتين عاتيتين من قوى الشر التي حاولت هدم صرح الإسلام، وهما التتار والصليبيون، وكان للمماليك جهاد مستمر ضد هاتين القوتين، وعلى مراحل مختلفة، وظلت دولة المماليك تحمل راية الإسلام في الأرض قرابة ثلاثة قرون، إلى أن تسلمت الخلافة العثمانية القوية راية المسلمين.
وفي هذا المقال سأحاول أن أمر باختصار شديد على الأحداث التي أدت إلى ظهور دولة المماليك.
الدولة الأيوبية تمهد للمماليك:
أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569 هجرية، وظل يحكم هذه الدولة عشرين سنة إلى سنة 589 هجرية، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقق عليهم انتصارات هائلة، والتي من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الآخر سنة 583 هجرية، وفتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من السنة نفسها، وترك صلاح الدين الأيوبي دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق وأجزاء من تركيا وأجزاء من ليبيا والنوبة.. وحُصر الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام.
التعليقات
إرسال تعليقك